ومنه الحديث: "من أحيا أرضًا ميتة فهى له، وما أصابت العافية منها، فهو له صدقة" (¬45) وفي هذا يقول الزمخشري: كل طالبٍ رزقًا من طائر أو بهيمة أو إنسان: فهو عاف (¬46). وقبله ذكر ذلك أبو عبيده (¬47) وغيره (¬48).
والأصل الذي ذكره الركبي: مجمع عليه من أهل اللغة، كأصل من الأصول المعنوية التى يؤديها يتساهل أحيانا في التعبير، فابن الأثير يقول في العفو: "وأصله: المحو والطمس" (¬49) ثم يعود فيذكره بمعنى الطلب في الحديث المذكور.
وينقل الأزهري (¬50) عن ابن الأنباري، أن الأصل في قول الله جل وعز: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (¬51): محا الله عنك، مأخوذ من قولهم: عفت الرياحُ الآثارَ: إذا درستها ومحتها. بيد أن ابن الأنباري لم ينص بلفظ "الأصل" وعبارته (¬52): معناه: درس الله ذنوبك ومحاها عنك. . . . إلخ. وإن كان ابن الأنباري يكثر من التعبير بالأصل فيقول: أصل كذا، ولكنه يريد المعنى، وقد يذكر أكثر من أصل، وهو يريد المعانى.
وبعض اللغويين يدقق ويتحرز في التعبير تحسبا لمثل هذا كالخليل (¬53) والجوهري (¬54) وغيرهما. ولا شك في أن الفئة الأولى تميل إلى المذهب الاشتقاقي في الربط بين تفريعات المادة وأصولها (¬55).
- والركبى متابع في أكثر الأمثلة التى يذكرها من هذا القبيل، فإذا تفرد بعضهم بمذهب ذكره مُسنَدًا إليه، وذلك في نحو قوله: "أصل الحفد: العمل والخدمة، ومنه الحفدة، وهم: الخدم" (¬56) وقوله: "في تسجية الميت: قال الزمخشري، قال ابن الأعرابي: أصله: الغيبوبة ومنه قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} (¬57) أى: ذهبنا وغبنا، فكأن الكافر جار عن الطريق الحق، أو غاب عنه الحق فلم يعرفه، ولم يهد له" (¬58).
ونلاحظ أنه ذكر حسب تعبيره أصلين في معنى الضلال، وأسند الثاني إلى ابن الأعرابي. وهذا لأن الأصل الأول متفق عليه، قال ابن فارس (¬59): كل جائر عن القصد: ضال، وكذلك ذكر في المظان اللغوية (¬60).
وفي المعنى الثاني قال الخطابي (¬61): قال أبو عمر: أصل الضلال: الغيبوبة يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غاب، وكذلك: ضل النَّاسِى: إذا غاب عنه حفظه، وهو قوله تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (¬62).
وفي الحديث: "ذروني في الريح لعلى أضل الله" (¬63) يقال: أضللت الشيىء: إذا غيبته، وأضللت الميت: دفنته.
¬__________
(¬45) غريب الحديث 1/ 148 والفائق 3/ 5.
(¬46) الفائق 3/ 5.
(¬47) غريب الحديث 1/ 148.
(¬48) النهاية 3/ 266.
(¬49) السابق.
(¬50) تهذيب اللغة 3/ 222.
(¬51) سورة التوبة آية 43.
(¬52) الزاهر 1/ 535 وشرح القصائد السبع 8، 20، 21، 26، 264، 487، 517.
(¬53) انظر العين 1/ 258 - 260.
(¬54) انظر الصحاح (عفو).
(¬55) النظم ص 87.
(¬56) السابق ص 124.
(¬57) سورة السجدة آية 10.
(¬58) النظم ص 133.
(¬59) في المجمل 2/ 560.
(¬60) انظر العين 7/ 9 والصحاح (ضلل) واللسان (ضلل 2601).
(¬61) في غريب الحديث 1/ 484.
(¬62) سورة طه آية: 52.
(¬63) الفائق 2/ 69 والنهاية 3/ 98.